هذه الرسالة وصلتنا عبر الإيميل من الكاتب الليبى محمد عمر غرس الله ، وهو من متابعى المدونة الخاصة بنا ( جريدة أخبار بنى سويف ) ، ونحن نرحب به ، ويسعدنا نشر مقاله .
الرسالة الليبية لليسار العربي
محمد عمر غرس الله
يلاحظ المتتبع للحالة الليبية في الربيع العربي 2011, بروز جدل في تقييم الثورة الليبية لدى البعض من اليسار العربي تحديدا ( ناصري - بعثي - اشتراكي, وما حولهما ) بما يمثله من رؤية وتحليل وموقف, غير ان الثورة الليبية في حقيقتها توجه رسالة لهذا التيار بالنظر الى علاقة الداخل الليبي بسياسات القذافي ,و علاقة ذلك بتطور الاحداث, وكذلك ماهو الامر الاساسي الحاسم الذي على اليسار العربي ان يراه ويعتبره.
لا احد ينكر ان القذافي كان راسا من روؤس اليسار العربي- ان صح لنا تقسيم السياسات العربية الي يمين ويسار - ولا احد ايضا ينكر ان اغلب الاحزاب والتنظيمات اليسارية العربية بتموجاتها كانت تأتي للقذافي وهي مرتبطة به بشكل او بأخر, مع عدم اغفال ان البعض منها عاش في خصومات وعداوات معه, غير انه بقى في المجمل احد روؤس هذا التيار, فسياساته الاقليمية التي ينادي بها مرتبطة بهذا التيار وهواجسه, وقريبة جدا من قناعاته, وهذا في - اعتقادي - ما دعى بعضا من اليسار العربي اليوم ان يكون متوجسا من سقوط الرجل,ومتوجسا ايضا من غموض التموضع السياسي الليبي الجديد عربيا, فهذا التيار لم يكن على وفاق مع اوروبا واميركا بل معاديا لها في احداث (احتلال العراق - القضية الفلسطينية - التدخل الغربي في المنطقة ), وبالتالي رأى في دور حلف الناتو العسكري في الاحداث الليبية ذراعا استعمارية, وثارا امبرياليا من القذافي وتوجهه, وهو امر في اطار اللعبة الدولية صحيح الى حد ما.
ان قراءة ما حدث واسبابه العميقة - وطنيا بعد 42 عام من تحكم القذافي في المشهد السياسي الليبي بكل تفاصيله, وايضا الصبر الشعبي عليه والانسياق ورائه وتأييده والهتاف له عن يمينه وعن شماله - تمكنا من فهم موضوع هذه الرسالة من خلال ثلاثة محاور.
اولها التنمية على الارض الليبية - بكل ما تعني هذه كلمة من معنى مؤسسي - فقضية التنمية المحلية بالمقارنة بالزمن ( 42 عاما) وبالدخل الوطني, هي في حالة بؤس حاد وانعدام البنية التحتية وافتقاد الاستقرار الاداري وسيادة عمليات الفك والتركيب للبنية الادارية بما فيها الجامعات كل عام اوعامين, وسيادة حالة الفوضى الادارية, وعدم اعتبار تكاليف ذلك ماديا واقتصاديا ووطنيا على واقع المجتمع ومستقبل الاجيال.
فحتى الارصدة المالية الكبير لليبيا في المصارف العالمية لم تعني لليبيين تأمين حياة كريمة او تعني لهم مستقبلا زاهرا على الارض, فالقذافي قال في دكار - اثناء احد قمم الاتحاد الافريقي الاخيرة للعالم, والليبيون يرون ويسمعون مشدوهين - ان 93 مليار دولار ارصدة ليبية - يعرفها العالم - مرصودة للاستثمار في الدول الافريقية, وقال بالحرف الواحد "انه لايمكن استثمار هذا المبلغ في ليبيا"!!,وفي مشهد اخر رأه الليبيون مشدوهين ايضا هو ارساله امين اللجنة الشعبية العامة ( رئيس الوزراء ) لليونان عام 2009 وتلويحه بامكانية مساعدة اليونان في الخروج من ازمتها المالية!!, في نفس اليوم الذي قالت فيه المانيا أنذاك - بكل ما تعنيه من قوة مالية وتنمية - انها لن تساهم في ذلك, هذا في الوقت الذي يعاني فيه الليبيون من البطالة وانعدام البنية التحتية وفقر الاسر وحاجة البلد للتطور الضروري, هذا في الحقيقة ما اسقط من على السياسات القذافي الدولية والعربية اي مشروعية بما فيها الاخلاقية وجعلها داخليا - بالمقارنة بالتقدم والتنمية والثقة - في حالة تعري تام ويأس شعبي حاد منها.
اما المحور الثاني فهو مرتبط بتطور الوضع السياسي الفعلي محليا , فهو من جهة يفتقر الى اسس دستورية تمكن من التداول السلمي السهل والسلس للسلطة فعليا, فشكل السلطة الفعلي ( القذافي وابنائه, بدون سند دستوري وقانوني) للدولة مبني على البقاء ( 42 عاما ) بشكله الذي تخشب وتركز مع الوقت, وايضا بروز وانفضاح اسلوب ان يقود التوريث - القسري للسلطة والتدرب عليها - معيار التنمية كمنح مناطقية في صور ترضية ومبايعة وولاء من كل واغلب اطياف المجتمع القبلية او المناطقية او الفئوية, بطلابها ومثقفيها واعلامييها واكاديمييها ومهاجريها, وبذلك تعرت مبررات سياساته الداخلية والخارجية وسقطت سقوطا مريع امام صراع الاجيال المحلي وحاجاته, وحالة العولمة الدولية.
ومن جهة اخرى يتعلق بتعامل القذافي الانكاري والاستهزائي الحاد مع الاحتجاجات المشروعة لليبيين عشية 16 فبراير, وذلك باستخدام الحملات العسكرية والرصاص الحي وافواج الكتائب العسكرية, الامر العائد لنكران سياسي وجحود حاد لمشاعر الناس واحتياجاتها ومتطلبات مستقبل الاجيال, والذي يبدو انه اعتقاد خاطئ بفاعلية علاقاته بالغرب مؤخرا, ناسيا ان المصالح هي معيار الدول وليست العلاقات الشخصية, وناسيا القيم العالمية في عصر العولمة, ومتناسيا ايضا ثاراتهم القديمة معه, فاعطى بكلامه - ( في خطاب السقوط يوم 22 فبراير ) وصراخه باستخادم القوة والسحق والدمار والتفتيش بيت بيت ودار دار - مبررا وحجة كبيرة وورقة رابحة لقرار الجامعة العربية بدفع من اليمين العربي ( مجلس التعاون الخليجي تحديدا ), ولقراري مجلس الامن, وهو في الحقيقة ما كان ينتظره الكثير من خصوم القذافي عربيا ودوليا.
اما المحور الثالث فهو انعكاس التصرف السياسي - كلام القذافي حول التحرر العالمي طوال 42 عاما ( قومية المعركة - الوحدة العربية - الاتحاد الافريقي - مناصرة حركات التحرر العالمية في ارجاء الدنيا الاربع- بناء حلف الساتو ) - على التنمية في ليبيا, حيث اصبح السياسي والتنموي في تنافر حاد, فسياساته الخارجية - السابحة في عالم المفاهيم المطلقة الاستعراضية الترفية - تصطدم كل صباح بحاجات الناس اليومية, وهي صارت في عصر العولمة في حالة تعري كامل بالمقارنة بالتنمية في دول اخرى - بالنظر لموارد ليبيا المالية العالية ونسبة السكان القليلة - مما احدث شرخا كبيرا واسقط من على هذه السياسات ورقة التوت امام الليبيون ومستقبلهم بحكم واقع الحياة اليومية .
ان ذلك جعل القضايا التحررية عربيا او دوليا - محور حديث القذافي - لاتعني لليبيين شيئا ومجردة من المصداقية بعد 42 عاما من الانتظار, بل اصبحت هذه الاشياء - على لسان القذافي - عدوة تنميتهم واستقرارهم وضياع اموالهم, وسبب دخول بلادهم في ازمات مع العالم, لانها ليست مرتبطة ولا تؤدي لتأمين مستقبل ابنائهم واجيالهم, بل هي معادية لها, واصبح واضحا انها ليست الا لبناء مجد تاريخي شخصي, وتوريث, ووهم على حساب الزمن ( 42 عاما ) ومعاناة الناس, وتدهور حالة المجتمع, وسيادة الفوضى والا نظام والا مؤسسات.
ان اتخاذ سياسة خارجية تلبس التحرر العالمي ردأ - في الوقت الذي تتوقف بل وتتراجع فيه بالمقارنة بالعصر والامكانيات حالة التنمية الداخلية - حولت هذا المفهوم وبالا على الانسان والارض, يجر نكدا وانحدارا على مستوى حاجة الاجيال ومواكبتها للعصر في التطور محليا, وهذا يعتبر خطأ استراتيجيا ووهما سقط في ليبيا اليوم, و على اليسار العربي ان يحسن قراءته ويتفهم المبررات والاسباب الحقيقية والموضوعية التي ادت بالليبيين للخروج في احتجاجات شعبية والقتال ومواجهة الرصاص والصواريخ بعد صبر 42 عاما, وأدت ايضا لأن يتقبل الليبيون تدخل بعض العرب وقوى دولية مجبرين وغير مختارين مشاركتها في معركتهم من اجل الحياة, رغم التوجس المسبق من الثمن الذي ربما سيدفع من جراء ذلك.
ان توني بلير هو مستشار عائلة القذافي, وبرلسكوني وساركوزي وزوجته - في الحقيقة - اصدقاء للقذافي الذي دعم الاخير في الانتخابات الفرنسية ( حسب تصريحات سيف القذافي ), ولم يكون ابدا اصدقاء لمصراته او بنغازي او الزنتان او الزاوية,او طرابلس, وبالتالي لايمكن اتهام الليبيين عموما بانهم على علاقة تأمر بهذه الدوائر, انهم ابنائه واصدقائه (كما يحب ان يخاطب اوباما ) - وخاصة في السنوات الاخيرة بعد تصفية قضية لوكربي - ولم تكن الا مواجهة القذافي اعلاميا وعسكريا - الحادة والدموية لمطالب الشعب - هي السبب الرئيس لدخول ايدي بعض العرب وايادي الغرب ( اصدقاء القذافي الجدد كما ظن ) في الطبخة الليبية.
ان الرسالة الليبية لليسار العربي في ربيع 2011 واضحة المعالم تقول من جهة ان الداخل وتنميته وبناء مجتمع مؤسس دستوريا, واحداث تنمية تتواكب مع العصر, وانعكاس ذلك على الانسان محليا, هو التحرر الحقيقي, لا ان تبقى اوهاما وشعارات تجر على الناس اضرار وبؤسا في كل موقف سياسي يتم اتخاذه, ومن جهة اخرى تقول ان القائد الحقيقي للشعب هو من يرى التنمية المحلية لبلاده طريقا للتحرر وليس ضياعها( التضحية بها ) باللهث كل عقد وراء معركة بعيدة وهمية يعتقدها هذا القائد, فما قيمة ان ترحب بالقذافي - اليوم - فنزويلا بينما تطرده بنغازي, وما قيمة ان ترحب به نيكاراجوا بينما يحاربه الزنتان بقضهم وقضيضهم, وايضا ما قيمة ان تدعوه جنوب افريقيا او غينيا -بكل امتنان - بينما تحاربه مصراته حيثما حل وتخرج طرابلس - على بكرة ابيها - مهللة بسقوطه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق